تلاشي الكينونة

الوجودُ، ذاك المصطلحُ الذي غدا من الأشدِّ إشكالًا في طيات الفلسفة وخطابِ القرن الحادي والعشرين، يجدُ سبيلًا آخر في أسطورة نرسيس وإيكو، إذ يكون مدارُ البحثِ في ماهيَّة الكينونة عبر الشخصيتين اللتين يظهرانِ للوهلة الأولى متقابلتين، لكنهما، في جوهرهما العميق، يضمان رغباتٍ غير واعية، متشابهة، متجذرة. فإيكو التي تنشدُ الاتحاد بنرسيس، ونرسيس الذي يفتنُ بمرآةِ ذاته، كلاهما يعبِّر عن رغبةٍ دفينة، سعيًا نحو الذات الكاملة والموحَّدة، لكن إخفاقهم في تحقيق ذلك الاتحادِ يؤدي إلى انحلالٍ في وجودهم. وهنا، تبرزُ لنا نظرياتُ التحليل النفسي لجاك لاكان، لتضيءَ على العلاقة المعقدة بينهما، وعلاقتهما مع ذواتهم.

يعرضُ لاكان ثلاث نظرياتٍ محورية؛ أولها تتعلقُ بالأنا، والثانية تُفصحُ عن العلاقة بين الذات والآخر، والثالثة ترتبطُ بالرغبة. وأساسُ نظرية لاكان في الأنا أنها وهمٌ في عينِ اللاوعي، إذ تشرحُ داليفا قائلة: «بالنسبة للاكان، الأنا – أي الإحساس بالذات كفاعلٍ موحَّدٍ وعاقلٍ يُعبر عنه بكلمة (أنا) – ليست إلا وهمًا صنعه اللاوعي». بل إن لاكان يؤكد أن اللاوعي مُنشأ بلغةٍ من سلسلةٍ اعتباطيةٍ من الدوال والمدلولات، ليغدو بناء الذات محضَ محاولةٍ لتثبيت هذه السلسلة، حتى يصبح المعنى، بما فيه معنى الأنا، ممكنًا. ومع انطلاق هذه العمليات الاعتباطية، يظلُّ الفردُ موهومًا بـ«الأنا»، التي ليست إلا انعكاسًا خادعًا.

أما شعور الذات بالآخر، كما يصفه لاكان، فإنه يتكونُ حين يدركُ الطفل انفصاله بدايةً عن أمه، ثم عن سائر الناس من حوله. ومن هنا، تُولدُ الذات بعد الإحساس بالآخر في مرحلة المرآة، تلك المرحلة التي يرى فيها الطفل ذاته منعكسةً في المرآة، ليصنع تصوره الأول عن نفسه. تلك الذات في المرآة ليست إلا خيالًا أو «سوء فهم»، فهي صورة مثاليةٌ بعيدةٌ عن الواقع. وفي مرآةٍ مثالية، يُحاول الفردُ، في سعيٍ دائم، التصالحَ مع تلك الصورة السرابية، أو ما يسميه لاكان بـ«الأنا المثالية».

ويرى لاكان أيضًا في غيابٍ داخليٍ في اللاوعي، والذي يتخذُ شكل الفراغ أو الحاجة، ما يدفعُ النفس نحو المطالبة والبحث، أو يرتقي إلى رغبةٍ أسمى. يقول ريختر: «إن الإحساس بالنقص يظهر في هيئة حاجةٍ أو رغبة، ويجبر النفس على المطالبة، أو يرتفع إلى الرغبة العليا». هنا، تُعدُّ اللغة حلًّا لهذا الفراغ؛ فهي المحاولة لاستعادة ما يغيبُ في اللاوعي، فهي الجسر الذي يربطُ بين الراغب والمرغوب، والوسيلة التي تصلُ بين المشتاق وموضوعِ شوقه. وإذا كانت اللغةُ هي الرابط الخفيُّ بين الذات الراغبة والمرغوب، فإن النظرة هي التعبير المباشر عن الرغبة. كما تقول داليفا: «إننا نُحاولُ من خلال النظرة إضفاءَ بناءٍ وثباتٍ على أوهامنا وفانتازياتنا للذات والآخر».

النظرة، بتعبير آخر، هي نقطة الوسط بين إدراك الذات وصورتها المثالية؛ حيث تُدرك الرغبة التي تسكن قلب الذات. تتداخل نظريات لاكان بقوة عند ملامستها أسطورة نرسيس وإيكو، ولإماطة اللثام عن اكتشافات هذا التداخل، نبدأ بفحص القصتين على نحوٍ فرديّ ولكن بمقارنةٍ هادفة، وتحت هذه الأسطورة نفسها وبتوجيهات نظريات لاكان المباشرة وغير المباشرة كأدواتٍ للرؤية. في أسطورة إيكو ونرسيس، تظهر إيكو كتشخيص لاسمها، إذ تُوصف في الأسطورة بأنها «حورية غريبة الصوت... لا بد أن تتكلم إلا إن تكلم غيرها». وقد كانت لعنتها هي ختمٌ لقدَرها كشخصيةٍ صدى، إذ قُدِّرَ لها أن «تردد الكلمات الأخيرة فقط، وتعيد صدى الصوت الذي سمعته». هكذا تصبح إيكو «ذاتًا» بمعنى زيزك للمصطلح؛ إذ يرى جيجك أن «الذات تتأسس في جوهرها بالخضوع... ففعل الذات الأعمق هو إخضاع نفسها لما لا مفر منه». لعنة إيكو، بحسب المنظور الجيجكي، هي لعنة الخضوع اللفظي الأبدي، ومع خضوعها للصدى تفقد حسًا كاملاً بالذات، فلا تصبح سوى دالٍ مجرَّدٍ من معنى، مجردة من كينونتها التي يمثلها الآخر الذي تردد صداه.

وفي غياب الحس الكامل بالذات، تصبح إيكو في حالة شوقٍ للآخر، إذ يقول ريختر: «في الرغبة الحقيقية – تجاه موضوعٍ واعٍ وقادر على أن يرغب فينا بالمقابل – تنشأ أشكال أرقى من الوعي بالذات». وهكذا، في رغبة إيكو بالآخر، يكمن شوقٌ وجوديٌّ لإكمال كينونتها. فإذا كانت إيكو هي الذات الجيجكية، فإن نرسيس، من منظور إيكو، هو الموضوع المقابل؛ فهو «ذلك الذي يُحرك، ويُزعج، ويُصدم». وجوده يدفع إيكو نحو الرغبة، ونرسيس هو موضوعٌ ثلاثي الأبعاد: فهو موضوع الرغبة بالنسبة لإيكو بقدر ما هو الموضوع الذي تحقق من خلاله إيكو اكتمال كينونتها. ولكنه – وهذا الأهم – يمثل موضوع لاكان الصغير (objet petit a)، ذلك الموضوع الذي لا يُنال، والذي يزعج إن لم يُصدم إيكو.

إن رفض نرسيس وسخريته من إيكو يؤديان إلى التحلل الحرفي لكيانها. وتحكي الأسطورة: «مُخزيةً ومرفوضة... ذبل جسدها... لم يبق منها إلا الصوت والعظام، وفي النهاية لم يبقَ سوى صوتها». علاقة إيكو بنرسيس هي حالة ردِّ الآخر بالرفض على الذات، فتفشل إيكو في الوصول إلى الاتحاد بالآخر، الذي كان ليكمل كينونتها ويربط دالها الفارغ بمدلولٍ يمنحها معنى. ومع تحلل جسدها، يبقى منها الصوت فقط، ذلك الدال الذي يُشير إلى هويتها. والمأساة الأعظم في قصة إيكو هي أن نهايتها تؤكد على الفراغ العميق في شخصيتها كدالٍ؛ فلا المدلول يمنحها المعنى، ولا يبقى منها في النهاية سوى دالٌ على كينونتها كدالٍ.

أما نرسيس، فهو يُجسد – بتعبير لاكاني – «الجسد المجزأ»؛ أو بالأحرى الذات المجزأة. وفي الأسطورة، يُقدَّم بسؤال من أمه إلى تيريسياس: «هل سيحيا عمرًا طويلًا ويبلغ سنّ الشيخوخة؟» فيُجيب تيريسياس: »إذا عرف نفسه». وتتبعه اللعنة التي أوقعتها نيميسيس: «فليحب إذن – ولن يُحرز حبه أبدًا!». هذه اللعنة تحدد إحساس نرسيس اللاواعي بالنقص؛ ما ينقصه هو الذات المثالية، «الأنا المثالية». وجود نرسيس يُظلَّلُ بلعنة الذات الغائبة، والرغبة في «الأنا المثالية» الوهمية. تتجلى رغبته من خلال نظراته، كما تشير داليفا: «نحن نكشف عما نرغب فيه من خلال النظرة». وهكذا، يُحكم على نرسيس بقضاء حياته محدقًا في انعكاسه، متشوقًا إلى اتحادٍ نظري مستحيل مع «الأنا المثالية». ومن منظور لاكاني، يظل نرسيس عالقًا في مرحلة المرآة.

لعنة نرسيس وصراعه الأبدي في مرحلة المرآة يتجسدان بلقاء مع الآخر، وهو «شابٌ مرفوض» كما يُشار إليه في الأسطورة. يوضح سكويلاس حالة نرسيس: «لعنة حب الذات تحلّ على نرسيس، في الواقع، من فم عاشق ذكرٍ مرفوض، الذي يُضاف إلى القصة التقليدية ليُظهر أن ما يرفضه الشاب ليس إيكو بذاتها... بل أي اتصال خارج دائرة ذاته». بمعنى آخر، فإن السعي العبثي لنرسيس نحو «الأنا المثالية» ينشأ من رفضه للآخر. ويعبر جيجك عن مفهوم «الأنا المثالية» بما يسميه «الأنا المتعالية»، وهي «وظيفة شكلية بحتة ليست لا نومينالية ولا ظاهرية – فهي فارغة، ولا تتوافق معها أي حدس ظاهري». وبالفعل، فإن «الأنا المثالية» بالنسبة لنرسيس هي وهم متعالٍ متجسد في انعكاسه. وتذكر الأسطورة أنه «لم يستطع أن يعانق نفسه». ويفشل نرسيس في إدراك عبثية أفعاله، ويعلق الراوي قائلاً: «أيها الفتى البسيط، لماذا تسعى عبثًا لملاحقة صورة زائلة؟ ما تراه ليس في أي مكان؛ وما تحب – لكن إذا أدرت وجهك – تخسره! إنك ترى شبحًا لصورة منعكسة؛ لا شيء في ذاته».

تعمل اللعنة على نرسيس نفسياً ووجودياً؛ فالاتحاد النظري الذي كان من الممكن أن يُكمل ذاته كان سيتحقق من خلال الاتحاد بالآخر، لكن برفضه لهذا الاتحاد يظل عالقًا أمام صورة شبحية لا يمكن الاتحاد بها. ما يختبره نرسيس هو تحلل كينونته. وتُشير الأسطورة إلى أنه «فني بالحب»، حتى لم يبق منه سوى «ولا جسد في أي مكان؛ وبدلاً منه وجدوا زهرة – انظروا، بتلات بيضاء متجمعة حول كأس من ذهب!». وكما هو الحال مع إيكو، نشهد تحلل الجسد في قصة نرسيس. وما يبقى هو زهرة، دالٌ على شخصية نرسيس. إنه التحلل النهائي للكائن: فالمدلول يتلاشى، وحتى الدال يتحول إلى رمز، شيء بعيد كل البعد عن الواقع في ترتيب الأشياء المقلد. لقد تلاشت جوهرية نرسيس، وما بقي منه لم يعد يحمل أي شبه بجوهره.

تحمل القصتان المتشابكتان لإيكو ونرسيس روايات مأساوية عن الحدود غير القابلة للجسر بين الغياب الجوهري والرغبة غير المتبادلة. كلا الشخصيتين تسعيان لتحقيق اتحاد يمنحهما إحساسًا كاملاً بالذات والكينونة، لكن فشلهما في تحقيق ذلك يثبت أنه مدمر. تبدو إيكو ونرسيس في البداية شخصيات متضادة، وربما يُفسر هذا السبب في وفاتهما المنعزل حيث يذوبان دون اتحاد مع الآخر. لكن حتى في التناقضات الثنائية، الأطروحات والنقائض، يمكن إنتاج تركيبة – وللأسف بالنسبة للشخصيتين لم تتحقق أي تركيبة.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق